Friday, August 29, 2008

قبلة النهايات السعيدة .. الفصل الأول


( 1 )

حين أعود من العمل، أضع الطعام على نار هادئة، وأتجه إلى غرفتها المعتمة. أفتح الشباك لبعض الضوء وبعض الهواء، ثم أساعدها على الجلوس. أضع خلف ظهرها وسادتين صغيرتين كي لا يطرح جسدها السائب إلى الخلف، ثم أفرد على ساقيها قطعة قماش قديمة، حتى لا تتسخ ملابسها من الطبيخ أو حبات الأرز. وبعد أن تأكل تنادي علي، فأحضر صينية القلل القديمة، والصابونة والفوطة. أغسل يديها وفمها، ثم أساعدها في الذهاب إلى الحمام، وانتظر حتى تتوضأ لأعود بها إلى السرير، وأجلسها ناحية القبلة، ثم ألف الطرحة البيضاء الخفيفة حول رأسها، وأطوي اللحاف أمامها لتستقر بجبهتها عليه وهي تسجد
عندما تنتهي من صلاتها يكون الشاي قد فتر، فأذهب به إليها. أضع الكوب في يدها، ثم أسألها كما كل يوم "عاوزة حاجه تانيه يا ست" فترد لأ يا ضي عيني.. روح ربنا يسترها معاك وينور لك طريقك"، أمضى وأعرف أنها ستنادى علىّ بعد دقائق لكي أغلق الشباك، ثم تنادى من جديد لتسألني عن أذان العصر، أو لأذهب بها إلى الحمام، أو لأبحث لها عن اللبانة، أو لأفتح الشباك
تنادى علىّ بصوت عال منغم، يلهب خلايا جسدي، ويمزق نسيج الصمت المتكاثف على جدران روحي. أعرف أنها لا تريد شيئا بالتحديد، ربما تلاعبني، أو تأتنس بصوتها، وتخيف به ملاك الموت، ومع ذلك أنهض بسرعة، وأذهب إليها، لتتوقف عن الصياح.. وأجن حين تنظر إلىّ بعينيها الرماديتين، المملوءتين مكرا وشرا وتقول لي" عاوز حاجة يا ضي عيني؟ ". أجن وأتمنى موتها حتى أستريح من صوتها العالي، ووجودها عديم المعنى. وأسأل نفسي: لماذا يمتد بها العمر إلى هذا الحد، بينما يموت أبى، وجدي، وعمى، وتموت أمى، وتموت أحلامي؟ ثم أسأل نفسى: من سيوافق أن يزوج ابنته في بيت تخدم فيه زوجا وجدته؟ حتى وإن وافق فكيف أتزوج في حجرتين فقط.. حين تموت، سوف تصبح غرفتها سفرة، وغرفتي.. وتظل أحلامي تنمو وتتوحش، حتى يأتي يوم الجمعة، كل جمعة، أغالب تأففي، وأنا أحممها، من أجل وصلة الضحك التي أغرق فيها، وأنا أمشط شعرها. عندما أمرر المشط العظم في شعرها الأبيض الرمادي، تصرخ: " حاسب يا وله.. حاسب على شوية الشعر اللي فاضلين ". وتمسك الخصلة النحيلة بين أصابعها وهي تمصمص بشفتيها وتقول: " شوف بقى ازاى.. ده كان زمان بنى.. وفي الشمس يبقى أحمر بيلمع.. وكت أعمله ضفرتين.. الضفيرة تخن كده ". وتصنع بسبابتيها و إبهاميها معا دائرة واسعة. ثم تضيف: " والنبي تشوف حاجه في الأجزاخانه عشان يطول شوية
أضحك وأقول لها: " إيه الحكاية يا وليه.. إنتى جايلك عريس؟ " فتضحك بصوت عال وتترك جسدها ليسقط على صدري، فأجوس بأصابعي في شحم جنبيها حتى تكاد تنفجر من الضحك
أقضى اليوم صافيا، ومستسلما لموجات الحنين المتوالية إلى الماضي، الماضي الضيق الرحب، إلى ليالي الجمعة الثقيلة على القلب. حين كنت أجلس متربعا على الأرض، أنظر إلى صفيحة الماء على الباجور. ويقشعر جلدي عندما تمسك ستى بمعصمي وتسحبني إلى الحمام، لتشوى جلدي بالماء الساخن، ثم تلبسني ملابس نظيفة، وتجلسني على حجرها لتمشط شعري، كان جسدي الخدر من اللعب والماء الساخن، يهفو إلى التمدد على السرير، السرير الذي كالماء العميق يغوص بي في رحبة الأحلام
كانت ستى هي التي تغرف لي الطعام، وتعد لي الشاي، وتشترى لي بوظة من حين لآخر، وتأخذني معها إلى السوق، وتشترى لي حلاوة شعر، تذوب في فمي في لحظات، ويبقى طعمها السكري طوال النهار. وكانت أيضا تضربني لأشرب الشيح كل صباح، وتحملني على كتفها إلى المستوصف ليشرطوا كتفي، وكنت أصعد معها إلى السطح لنطعم البط والفراخ، وأبحث لها عن بيض الفراخ في زوايا السطح
ثم كبرت قليلاًً، وعرفت أن ستى ليست أمى، وأن أمى هي التي تجلس أمام باب الدار طول النهار، وتنام خلفه ليلاً. لا تتحرك إلا لتذهب إلى الحمام، أو لتجلس أمام الفرن، في الصالة الجوانية، أيام الخبيز. وكانت صامتة دائماً، لا تتكلم، ولا ترد على كلام، وكثيراً ما كانت تبكى ليلاًًً. كنت أسمع نحيبها، وأظنه صوت العفاريت، فأحتمي بجسد عمى، وأنا أحدق في ظلال نور لمبة الجاز على زجاج الباب، وأرسم بها وجوه العفاريت، حتى يداهمني النوم
خرجت إلى الدنيا فوجدتها تجلس أمام باب الدار نهاراً، وفي حجرها صينية كبيرة عليها أرز، أو فول، أو غلة تنقيها من الحصى، بسرعة ودأب، وفي الليل تنام خلف الباب، على شلتة من قصاصات القماش، التي تجمعها طوال الصيف، وفي الشتاء تربط الطرف بالطرف لتصنع خيوطا خرافية الطول والألوان، تحولها بالصبر والسحر ونور العينين إلى بساط سميك، يرد عنها البرد قليلاً
كنت أدخل الدار وأخرج منها آلاف المرات، دون أن أنتبه إلى وجودها، بل ودون أن أشعر أنها أمى، إلى أن جاء يوم ذهبت فيه إلى الغيط مع جدي، دون أن أخبر ستى، وحين عدنا بعد العصر بقليل، كانت تجلس كعادتها أمام الباب، في حجرها صينية أرز، وإلى جوارها ستى وبعض نساء الشارع، وعندما لمحتني راكبا الحمار أمام جدي، ألقت الصينية بالأرز على الأرض، وجرت نحوى.. كانت تجرى بسرعة واندفاع حيوان ضخم.. وفي لحظات، كنت أطير في الهواء، وأرتطم بالأرض، وصفعاتها القوية تكهرب جسدي. تكورت على نفسى، وحبست أنفاسي وأنا أنظر إلى وجهها الشاحب، وجسدها الذي ينتفض ويحاول الوصول إلىّ، عبر أجساد نساء الشارع
كيف انتهت هذه اللحظة، وكيف مر ذلك اليوم؟
وبعد ليلتين رأيتها في الحلم، كان وجهها داكنا، وبلا ملامح، وجسدها أضخم من الحقيقة، كما كانت تقبض على الهواء وتحطمه بذراعيها، بينما كنت – من الرعب- أتسلق جذع كافورة أملس، فأنزلق، وأعاود التسلق فأنزلق، إلى أن أنتقل الحلم إلى أرض مستوية، لا نهاية لها، تحوطها صفوف أشجار يابسة، والماء ينبجث من الأرض فورا، شق ظلام الليل وظلمة الحلم، ويجعل التراب الناعم تحت قدمي زلقا، ويجعل هربي منها مستحيلا
في الصباح كانت تجلس مكانها، أمام الباب، وتبدو كهرم صغير، باهت السواد، وكان وجهها الخمري الضخم الصلب شاحباً، وتحت عينيها هلالين يضربان إلى زرقة داكنة، وفي عينيها نظرة برية حالمة. تأملت أصابعها الجافة، رمادية الأطراف، والتي تنبش الأرز، ومن وقت لآخر تتحسس أصابع قدميها الزرقاء من طول الجلوس في وضع ثابت
رأيتها للمرة الأولى ذلك الصباح، وبدأت أخاف منها منذ ذلك الصباح، أخاف من صوتها الخفيض القاسي وهي تحدث نفسها، أخاف من سكونها، وأخاف من جسدها، وأخاف أن أعبر الباب إلى الشارع كي لا أمر أمامها، وأصبحت أجلس إلى جوارها طوال اليوم، وكأنني مربوط إلى جسدها بسلسلة من وهم، وحين أغيب عنها قليلاً، تنادى علىّ بكل قوتها، بصوتها الغليظ العالي، الذي تتردد أصداؤه في الهواء، وتصل إلىّ في الشارع، وفي المدرسة، وفي الأماكن الموغلة في البعد، حيث لا تصل، أو يفترض ألا تصل، وصرت أجلس في أي مكان منتصب الحواس، أذني مشرعة، مصلوبة في الهواء لتتلقى أدنى صوت. أميز صوتها بسرعة وبنفس السرعة أبدأ الجري، ولا أتوقف إلا أمامها، لأتحاشى غضبها. لأنها حين تغضب. تنقض علىّ، وتدفعني لأسقط على الأرض، تحت قدميها، وتظل تضربني طويلاً، على ظهري، وفي بطني، وفي وجهي حتى يطرش الدم من أنفى، دمى الطازج يزيد هياجها، فتقبض على لحم كتفي بأسنانها القوية، وتزوم كحيوان يتألم
وفي عمق الليل أجلس على السرير، منطو على نفسي، رأسي بين ركبتي، وذراعاى يحيطان بهما. نبضات الألم تخفت، وتنسحب ببطء من جسدي، لكن المرارة تطفر في حلقي وأنا أطارد الصورة الوحيدة للغيط في رأسي. أراها تبهت يوما بعد يوم كحلم مراوغ. وأسأل نفسي: هل حلاوة الثمرة تعادل مرارة الطرد؟
وحدث أن قالت لي بنت كنت أحبها: أصبر لما أبوك يرجع، وعرفه إنها كانت بتضربك كل يوم. قلت لها أنه لن يرجع، لأنه مات وتركني وحيداً. لا أدري كيف عرفت كيف فقد في حرب صحراوية، ذات صيف شديد الحرارة، وترك امرأة لا يعرف الفرح إليها سبيلا. تجلس أمام باب الدار نهاراً، وتنام خلفه ليلا، لتسمع طرقاته الواهنة وتكون أول من يفتح له الباب
كانت تنتظره وتبحث في الأشياء عن بشارات لعودته، وكان صوت الكروان يرجف جسدها البدين، لأن غائباً سيعود على صوته، وتدعوا الله أن يكون العائد غائبها
قالت لي ستي مرة _ المرة الوحيدة التي تحدثت فيها معي عن أمي _ أنها فقدت النطق حين جاءهم الخبر، ولم تتكلم مرة أخرى إلا بعد عامين كاملين. قالت لهم أنها رأته في المنام، كان يرتدي بدلة جيش خضراء، ويشير إليها من مركب بأشرعة بيضاء ويقول: أنا رايح مشوار وراجع بكره العصر. ثم عادت على الصمت سنوات أخرى، ومن حين لآخر تسأل عن الحرب، ولا تعرف أنها انتهت ولا تصدق أنه مات
في طفولتي الأولى عرفت انه مات ولم أحزن عليه ولم أفتقده، فأنا لا أعرفه أصلاً. كنت أإلى صورته المعلقة في حجرة الجلوس، على مسمار أكله الصدأ إلا قليلا، فأتذكر جدي حين يجلس في الحضير، وأمامه صندوق الحلاقة. يفتحه ويخرج الموسى ويضعه في ماكينة الحلاقة الصدأة، ثم يخرج الفرشاة صفراء الشعر، وقطعة صابون صغيرة نفاذة الرائحة، ومرآة مدورة بلا إطار. يدعك خديه بالفرشاة طويلا حتى تتكون طبقة دسمة من الصابون، يكشطها بالموسى برفق فتنزاح وتأخذ الشعر معها وتترك وجهه براقاً مشدود الجلد
كانت حلاقة ذقنه طقساً طويلاً ينهيه بأن يخرج من جيب الصديري علبة معدنية مكتوب عليها "دخان المغربي" أعلى رسم لشيخ صغير الجسد، له لحية بيضاء كبيرة، يرتدي عباءة سوداء وطربوش أحمر طويل مخروطي الشكل. يخرج من العلبة ورقة بفرة متناهية الرقة، يفرد عليها بعض الدخان، ثم يبرمها بإحكام. بعد ذلك يبلل طرفها بطرف لسانه، ثم يضغطها برفق فتكون سيجارة يلفها كثيرا بين أصابعه، قبل أن يضعها بين شفتيه ويدخنها وهو ينظر إلى السماء.
ثم جاء وقت كنت أهرب فيه من المدرسة، وأذهب إلى السينما، وأشاهد قصصاً عجيبة عن غائبين يعودون إلى بيوتهم بعد سنين، وعن خداع الدنيا ومراوغة الأيام، حتى أنني اعتقدت أن العالم هو مكان الحقائق المخفية، التي لا تظهر إلا في النهاية. وصرت في تلك الأيام أنزل عن السرير كثيراً، في قلب الليل. أعبر الصالة على أطراف أصابع قدميً كي لا أزعج نوم أمي المضطرب ، وأحضر الكبريت وأتجه إلى حجرة الجلوس.أقف على الكنبة لأتأمل صورته على الضوء الأصفر الثقيل، الذي يخرج ملامحه من كتلة الظلام التي تملأ الحجرة ويجسدها أمامي. كنت أشعل عوداً بعد عود لأثبت ملامحه في رأسي، على الضوء المتوتر سريع الزوال، الذي يتراقص ثم ينكمش فيذوب الوجه الصافي في الظلمة مرة أخرى
بين النور والظلمة، روح تجمدت على الورق. روح أبي وهو يقف أمام الكاميرا بزيه العسكري، وعلى وجهه ابتسامة شاحبة، وفي عينيه قلق جم، وهو ينظر إلى العدسة كأنها بلورة تتابع صور المستقبل الغامض على سطحها الأملس اللامع
وأسأل نفسي الآن: لماذا لم أنظر إلى صورته في ضوء النهار مرة واحدة ؟ ولماذا في صدري حنين إلى علبة كبريت النيل التي لم يعد لها وجود، بالهلب الأخضر مقطوع الحبل المرسوم عليها، وعيدانها البيضاء بروؤس حمراء حامية، تشتعل من فورها عند ملامسة الحكاكة الخشنة بانفجار صغير، و وشيش عصبي ، قبل أن يسطع الضوء الأصفر
ويضيء عتمة الروح، في ليال حالكة السواد
تحية إلي كل زملاء الحلم في عالم أفضل
يعيش الإنسان فيه إنسانا